يقول المصنف: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة]، فلا نجد أبداً عالماً من أئمة الدين المتبوعين قائماً بجملة بدعة من البدع، يعني: آخذاً بمنهجها كله، لكن يحصل أنه يخطئ في مسألة أو يتابع في جزئية، فما يكون بعد ذلك من الأتباع إلا أن ينسبوه كله له ويتغاضون عن فضائله، فمثلاً الإمام مالك رحمه الله كان أول مذهبه في الصفات على منهج أهل السنة والجماعة، وسار على منهجه أئمة المذهب المشهورون الكبار وظهر منهم الإمام ابن أبي زيد القيرواني الذي يسمونه مالكاً الصغير؛ لأنه أحيا وجدد ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكتب الرسالة في فقه المالكية، وبدأه بمقدمة في العقيدة والإيمان -وهذه عادة طيبة وحسنة- والرسالة لابن أبي زيد يقال: إنها أول مدونة قانونية جمعت مواد تشريعية، وهو كتاب قيم ولا شك، وبالذات في المذهب، فمقدمة الرسالة مقدمة إيمانية سلفية ليس عليها غبار، فجاء من بعده وحاولوا أن يجعلوا الشيخ أشعرياً على مذهبهم، والشيخ ابن أبي زيد كلامه واضح، فمثلاً في مسألة العلو يقول: (وهو على عرشه المجيد بذاته) وهذا إثبات العلو (وفي كل مكان بعلمه) وهذه عبارة واضحة لا لبس فيها، فجاء الأشعرية ليؤولوا كلامه، فقالوا: (وهو على عرشه)، إلى هنا تنتهي العبارة، ثم تستأنف بقول: (المجيدُ بذاته)، أي أن الله مجيد بذاته، وهو حكيم بذاته، وعليم بذاته، أما أن يكون (وهو على عرشه المجيد) فتكون المجيد هنا صفة للعرش، فقد رفضوا ذلك، لأننا إذا قلنا: (وهو على عرشه المجيدِ بذاته) أثبتنا العلو، وهم لا يريدون ذلك بل يريدون أن يؤولوا كلامه ليوافق مذهبهم، من أجل أن ينتحلوا من ليس منهم.
وإن أمامنا مثالاً واضحاً جلياً في مسألة الانتحال، فهذا الإمام زيد المشهور نسبة الزيدية إليه، والزيدية على منهج ومذهب المعتزلة ثم يقولون: نحن زيدية، فيقال: ليس عند زيد ما يوافق به منهج الزيدية، فإن زيداً وافق المعتزلة في مسألة واحدة فقط وهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي على أساسها خرج على بني أمية، ولم يكونوا كفاراً، بل كانوا حكام جور، وخرج من اتبعه من بعده على بني العباس، فخرجوا على أئمة الجور، ورغم هذا فنقول: لا نجزم أنه كان يعتقد هذا المبدأ للاعتقاد، لكن قد يكون رأى المصلحة في هذا الخروج. والمقصود أن الزيدية جاءوا من بعده ونسبوا كل مذهب المعتزلة إليه، وقالوا: من فضل زيد وشرفه وعلمه أنه تلقى المذهب على يد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، بئس الشيخ وبئس المعلم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ! لكن يظن الزيدية أنه مدح لـزيد أن يقال عنه: إنه تلقى ذلك عنهما، كما يقولون أنهما تلقيا المذهب عن الحسن بن محمد بن الحنفية أو عن أبي هاشم، ثم مع ظنهم أن الاعتزال شيء عظيم نسبوا أئمتهم إلى الاعتزال ونسبوا الاعتزال أيضاً إلى أئمتهم، وأغرب من ذلك أنك تجد في كتاب المنية والأمل، وهو من كتبهم في الفرق يزعمون أن أول من قام بهذا المذهب الخلفاء الراشدون، حتى كادوا أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم على مذهبهم، فجعلوا أبا بكر وعمر على مذهبهم، ثم بعد ذلك جعلوا علياً على مذهبهم، ثم من بعده، فكأنهم يدعون أن مذهبهم هو الإسلام.
وهم ليسوا وحدهم في هذا، فقد قال المتكلمون: أول من بدأ الكلام عمر ؛ لأنه ناقش السارق في القدر، فقالوا: إن عمر جيء بسارق فقال له عمر : لم سرقت؟ فقال: هذا قدر الله، فقال عمر : [[سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله]].
إذن فـعمر عندهم من أهل الكلام، ورأيت كتاباً من الكتب التي تناولت نشأة الكلام، فوجدت فيه هذه العبارة، كما نسبوا إلى علي رضي الله تعالى عنه أنه ناقش أو ناظر رجلاً من القدرية، وبهذا يكون متكلماً، يعني: كل من له رأي أو كلام أو شيء يتعلق بالعقيدة فهو عندهم متكلم، مع أن علم الكلام هو ضد التوحيد وضد العقيدة.
وتأتي الصوفية وتنتحل المشاهير، وهم في انتحالهم أشد ممن قبلهم، حتى قالوا: إن الخرقة نزل بها جبريل، وألبسها محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو ألبسها أبا بكر أو علياً، وهكذا إلى أن وصلت إلى الحسن، ومن ثم إلى أن وصلت إلى الجنيد، إلى أن طارت إلى عبد القادر الجيلاني، إلى أن وصلت إلى فلان، فسبحان الله! كيف ينتحلون هؤلاء وينسبونهم إلى ذلكم الباطل، فالادعاء كثير، لكن بعض هذا الادعاء له أصل وهو أن يكون هذا الإمام أو العالم أو المشهور المتبع قد وافق بعض جزئيات هذه البدعة، أو قال بشيء من جزئيات البدعة، فينسبونها كلها إليه، ويتركون ما هو من صريح كلامه في مخالفتهم، كما ذكرنا في مثال زيد، فهم لا يقبلون ما ذكره زيد في أمور أخرى، فهم يأخذون بأقوال الأعلام الموافقة لهم ويلبسونهم ثوب الاعتزال ويجعلونهم جميعاً معتزلة .
وهذا ما يفعله الأشعرية في تأويل الصفات، فتجد بعضهم يقول: إن أوَّل من أوَّل: الصحابة ومن بعدهم، فيقولون: إن مجاهداً أوَّل قوله تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1] فقال: قدرته؛ وهذا تأويل، فنقول: هناك فرق بين نفي الصفة وبين تفسير الآية أو المعنى الكلي للآية، كما ينسبون إلى الصحابة نفي الصفات، فيقولون: إن ابن مسعود أوَّل؛ قلنا: ماذا أوَّل؟ قالوا: ألم يقل في قول الله سبحانه وتعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ))[القلم:42]: الهول والكرب والفزع؟!
إذن فهم ينتحلون المشاهير من الأئمة، حتى وإن كانوا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وينسبونهم إلى مذهبهم، مع أننا نعلم ونجزم بأن هذا القول لو عرض على أحد هؤلاء الأئمة المتبوعين المشهورين بالعلم والدين لأنكره، بل لو قرءوا تاريخ أي واحد من الأئمة لوجدوا أنه ينكر بدعتهم إنكاراً شديداً وإن كان قد أخطأ فوافقهم في بعض جزئيات بدعتهم، فيقول: "ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير" فـالخوارج انتحلوا كثيراً من المشاهير كما قالوا في حجر بن عدي، وأبي بلال مرداس بن حدير وغيرهما، والقدرية انتحلوا الحسن البصري ونسبوا الحسن إلى القدر وقالوا: إمامنا في القدر: الحسن البصري !
سبحان الله! الحسن البصري يكون من أئمة المبتدعة؟ حاشاه والله! ولكن هذا مما سولت لهم أنفسهم.